لطالما سعى الإنسان عبر التاريخ لتجاوز الأشياء الملموسة والبحث عن قوى غير مرئية تمنحه الطاقة والإلهام والإبداع، لتختلط بذلك الحقائق بالخرافات والأساطير، وقد بقي العلم في كثير من الأحيان عاجزا عن تفسير بعض الظواهر التي حيرت العلماء.
وتعتبر ممارسة التأمل من أبرز القوى الخفية التي يمتلكها الإنسان، وتشير معطيات علمية إلى وجود إيجابيات لذلك، مثل تخفيف القلق والاكتئاب والألم، ومساعدة المرضى على الشفاء بشكل أفضل وأسرع.
وفي الفيلم الذي بثته الجزيرة الوثائقية "قوة التأمل" نجد أن هناك اهتماما كبيرا من قبل علماء الأعصاب وعلماء الأحياء والأطباء النفسيين حول العالم، بآثار التأمل على العقل والدماغ والجسم نفسه.
فما مدى صحة الممارسات المعتمدة على التأمل التي كثر عليها الإقبال في السنوات الأخيرة؟ وهل هي فعلا حقيقة علمية لها أصل علمي ونتائج حقيقية، أم مجرد خرافات وأوهام؟ وما هي فوائد التأمل أو الممارسات المرتبطة به على صحة الإنسان؟ وكيف يمكننا الاستفادة صحيا من التأمل واليوغا التي أصبحت رياضة يمارسها بعض الأشخاص بانتظام؟
التأمل.. حلة جديدة لممارسات كانت سائدة منذ القدم
مارس الإنسان التأمل بشكل فطري منذ آلاف السنين، من خلال الممارسات الروحانية والديانات والعقائد المختلفة عبر التاريخ، فالدين الإسلامي مثلا يحثنا على الخشوع في الصلاة، وتدبر القرآن الكريم أثناء تلاوته، مما يساعد الجسم على الاسترخاء والشعور الإيجابي، وهو أمر لا يختلف كثيرا عن ممارسات التأمل غير التابعة لأي ديانة أو اعتقاد.
وبسبب ضغط الحياة اليومي وتراجع الممارسات الروحانية والدينية وسيادة المنطق المادي، خصوصا في الدول الغربية، بدأ الأطباء في دق ناقوس الخطر من تدهور الجانب النفسي للأفراد والجماعات، وأجريت دراسات عدة حول الارتباط الكبير بين الصحة النفسية والجسدية، وهكذا أصبحت ممارسة التأمل في مواجهة الضغوط المتراكمة شرطا أساسيا للحفاظ الصحة الجيدة بشكل عام.
ولا تتطلب ممارسة التأمل أو "فن الاستغراق العقلي" كثيرا من الوسائل أو الأدوات، بل يكفي الانعزال في مكان هادئ ومريح مع إضاءة طبيعية، واتخاذ وضعية سليمة تساعد على التنفس بهدوء، ويكون فيها العمود الفقري مستقيما، مع إمالة الرأس قليلا إلى الأمام لمزيد من الاسترخاء.
وينصح المختصون بمحاولة التركيز على شيء واحد دون غيره، من خلال رسم صورة تخيلية له في العقل، وجعلها محور اهتمام وهو ما يسمى "تجسيد الصورة الذهنية". ويستحسن تكرار العملية مرة أو مرتين في اليوم، على أن تستغرق ما بين 20 إلى 30 دقيقة.
سيمفونية العقل والجسد.. عزف على أوتار جهاز المناعة
أثبتت عدة دراسات وأبحاث أن الجانب النفسي يبقى حاسما في الشفاء من الأمراض العضوية، فكلما كان المريض هادئا وغير متوتر، زادت فرص شفاءه بسرعة. كما أجمع العلماء على أن جهاز المناعة الذي يحمي الجسم من الأمراض، يتأثر سلبا بمشاعر الحزن والإحباط والخوف، وغالبا ما يتعرض الشخص الذي يحمل هذه المشاعر لضعف شديد في مقاومة الأمراض والأوبئة.
وقد ركز أطباء طيلة جائحة كوفيد 19 -التي ضربت العالم منذ نهاية سنة 2019- على تقوية الجانب النفسي لدى المصابين بالعدوى، لجعل جهاز المناعة لديهم أقوى، باعتباره الوحيد القادر على تخليص الجسم من الفيروس المسبب لهذا المرض.
وقدم باحثون تفسيرا علميا لهذه العلاقة بين الجانب النفسي والعضوي، وتوصلوا إلى أن الجهاز العصبي يبدأ في حالة الإجهاد والتوتر بإفراز كمية كبيرة من هرمونات الكورتيزول والأدرينالين التي تؤثر على استجابة المستقبلات الحسية للخلايا الليمفاوية.
ويضاف إلى هذا الجانب عامل حاسم آخر مرتبط بساعات النوم، فأغلب من يعانون الاكتئاب والتوتر والخوف لا يحافظون على نظام نوم متوازن، مما يؤدي إلى اختلالات هرمونية تؤثر في الأخير على استجاباتهم المناعية.
الكورتيزول.. هرمون التوتر الذي يكبحه التأمل
يوصف الكورتيزول بهرمون التوتر أو الإجهاد لدى الإنسان، وهو سبب الكثير من المشاكل الصحية المرتبطة بضعف الجهاز المناعي وزيادة الوزن وأمراض القلب الضغط الدموي. وتعتبر السيطرة على إفرازات هذا الهرمون سببا مباشرا في القضاء على عدد من الأمراض التي تبقى مستعصية على العلاجات التقليدية.
ويفرز الجسم "الكورتيزول" بعد هرمون "الأدرينالين" الذي يواكب شعور الإنسان بالخطر أو الخوف، ليساعد في تحويل الدهون إلى سكريات لمساعدة العضلات على القيام برد الفعل، مثل الركض أو القفز للنجاة من موقف معين. كما يفرز هذا الهرمون بكثرة عند قيام الدماغ بنشاط مفرط أو التفكير في أشياء مقلقة أو مثيرة، وبحسب مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية فإن عدد الأفكار التي قد تراود الإنسان في حالة النشاط المفرط للدماغ، قد يصل إلى 50 ألف فكرة في اليوم الواحد.
يتم إفراز "الكورتيزول" من الغدة الكظرية فوق الكليتين لتحفيز إنتاج الطاقة
وتفرز الغدة الكظرية الموجودة فوق الكليتين، الكورتيزول بشكل مفرط أيضا في حالات القلق والتوتر اليومي في أماكن العمل أو في السيارة أثناء الازدحام المروري، وهو ما يؤدي إلى الشعور بالجوع بسبب تحويل الدهون إلى سكريات، وبالتالي تسجيل زيادة في الوزن، وسمنة في مفرطة في بعض الحالات.
ويُنصح باعتماد الطرق الطبيعية لخفض مستويات إفراز الكورتيزول، ولعل من أهمها ممارسة تقنيات التأمل، من خلال السماح للعقل بالاسترخاء والهدوء، مما يساعد في تخفيف توتر عضلات الجسم وتقليل إجهاد المخ وتصفية الذهن. بالإضافة إلى الحفاظ على ساعات نوم منتظمة، وممارسة الرياضة، واتباع نظام غذائي صحي ومتوازن، مع تجنب الأطعمة الغنية بالسكريات.
تآكل المادة الرمادية.. سد التأمل ضد شيخوخة الدماغ
تعتبر مناطق الدماغ المختلفة أكثر تأثرا بعملية التأمل، وقد انصب أغلب الدراسات والأبحاث على كيفية تفاعل الدماغ ومكوناته مع هذه الممارسة، وخصوصا المادة الرمادية التي تحتوي على الخلايا العصبية المسؤولة عن معالجة المعلومات، ومن المعروف أن هذه المادة الرمادية الموجودة على شكل قشرة دماغية يقل سمكها وتتآكل مع التقدم في السن.
وتوصل باحثون في كلية الطب بجامعة كاليفورنيا الأمريكية إلى أن ممارسة التأمل يحافظ على المادة الرمادية في الدماغ على نطاق واسع حتى مع التقدم في العمر. وجاءت هذه الخلاصة بعدما راقبوا 100 شخص من مختلف الأعمار، نصفهم مارس التأمل لمدة تراوحت بين 4-46 عاما، والنصف الآخر لم يسبق له القيام بهذه الممارسة.
وتصدُر عن الدماغ موجات طاقة كهرومغناطيسية يؤثر عليها التأمل بحسب عدد من الدراسات التي أجريت على مشاركين خضعوا لفحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي، ومن بينها دراسة نشرتها المجلة العلمية "سايكاياتري ريسيرتش" (Psychiatry Research).
اعتمدت هذه الفحوصات التي أجريت على مشاركين قبل وبعد ممارسة "التأمل" لمدة 27 دقيقة بشكل يومي خلال ثمانية أسابيع، ولوحظ لديهم بعد مرور هذه الفترة تغيير في منطقة الحصين (Hippocampus) المسؤولة عن التعلم والذاكرة والوعي الذاتي والتعاطف، وأيضا في منطقة اللوزة (Amygdala) المسؤولة عن مشاعر التوتر والقلق.
وأكدت دراسة أجريت في جامعة "ميتشيغان" الأمريكية عام 2019 وشملت 200 شخص، تأثير التأمل الواضح على الدماغ وسرعته في معالجة المعلومات واكتشاف الأخطاء، إذ وجدوا أن الأشخاص الذين خضعوا لجلسة تأمل سابقة استغرقت عشرين دقيقة، كانوا أسرع في كشف الأخطاء بعد خضوعهم لاختبار على جهاز كمبيوتر.
ممارسة اليوغا.. تصوف جديد في صالات الرياضة
يقول الخبراء إن تدريب العقل على التركيز، يمر أيضا عبر التحكم في الجسد وعضلاته وحثها على الاسترخاء، وهذا هو الدور الرئيسي لرياضة "اليوغا" التي كثر الحديث عنها في السنوات الأخيرة، وأصبحت ملاذا للكثير من الأشخاص الذين يبحثون عن طرق الاطمئنان النفسي وتخفيف القلق المتضاعف مع ضغوط الحياة الحديثة، في ظل الفراغ الروحي والديني في الغرب تحديدا.
أصبحت اليوغا تقليدا عالميا جديدا يمارسه الكثير من الناس لتحقيق التأمل والانفراد بالذات
ويعقد أن اليوغا ممارسة دينية يعود عمرها لآلاف السنين، فقد مورست منذ وقت طويل جدا في كهوف الهند القديمة، قبل أن تنتشر على أيدي الهندوس القادمين من الشرق، خصوصا أولئك الذي هاجروا إلى أمريكا منذ أواخر القرن التاسع عشر. ووصلت هذه الرياضة إلى ذروة الانتشار في ستينيات القرن الماضي مع "مهاريشي ماهش يوغي" مؤسس حركة "التأمل التجاوزي" وحركة "التجدد الروحي" في جميع أنحاء العالم.
وبعيدا عن الجانب الفلسفي والعقائدي لليوغا، يرى كثيرون أن ما يمارسونه يقتصر على الأوضاع الجسدية باعتبارها تمارين للتحكم بالنفس، والاسترخاء الذهني والبدني، مما يساعد على تنشيط الدورة الدموية، وزيادة سعة الرئتين، وزيادة مرونة المفاصل والعمود الفقري.
اليوم العالمي لليوغا.. رياضة الشرق تغزو دول الغرب
تقبل النساء أكثر من الرجال على ممارسة اليوغا، ويقدر مجموع ممارسيها في الولايات المتحدة بنحو 35 مليون شخص، أي 1% من مجموع سكان البلاد، ويصل العدد إلى 3 ملايين في فرنسا، وتشهد هذه الأرقام نموا سنويا سريعا، تزامنا أيضا مع نمو الأرباح التي تجنيها صالات تلقين هذه الرياضة، وهي أرباح تقدر بمليارات الدولارات سنويا.
أحد مراكز تدريب التأمل في لبنان
واعترافا من الأمم المتحدة بشعبية اليوغا قررت تخصيص يوم الـ19 من يونيو/حزيران يوما عالميا لليوغا، وتصفها منظمة الصحة العالمية بأنها وسيلة لتحسين الصحة، في إطار خطة العمل العالمية المتعلقة بالنشاط البدني للفترة 2018-2030.
إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده.. أضرار جانبية
يحذر كثير من الخبراء من أن الانغماس دون تعقل في هذه الممارسات، سواء تعلق الأمر بالتأمل أو اليوغا، قد تكون له انعكاسات سلبية على سلامة وصحة الانسان، فممارسة اليوغا مثلا يمكن أن تصبح خطرة إذا لم تمارس على النحو السليم من الناحية الجسدية، خصوصا إذا تجاوزت حدود قدرات الجسد والقيام بانحناءات خاطئة ومؤلمة.
كما أن التأمل قد يتسبب في حالات نادرة في نتائج عكسية، مثل تذكر المواقف السلبية والانغماس في مشاعر مزعجة مرتبطة بذكريات سابقة. كما يمكن أن يؤدي التأمل إلى الأرق والقلق، وفرط الحساسية للضوء والصوت، بسبب الإفراط في الحرمان الحسي الذي يواكب هذه الممارسة من خلال الصمت وإغلاق العينين لفترات طويلة، بالإضافة إلى احتمال حدوث ما يسمى ظاهرة "الذعر الناجم عن الاسترخاء"، إذ يعاني البعض من زيادة القلق أو الخوف بعد الاسترخاء.
لا شك إذن أن هذه الأضرار تبقى نادرة الحدوث، مقارنة بأهمية ممارسات التأمل أو التركيز الذهني على جسم الإنسان التي أكدتها الدراسات والأبحاث العلمية، لكن ذلك لن يعوض بأي شكل من الأشكال العلاجات الأخرى التي تعتمد على الأدوية والجراحة، إذ تبقى هي الأساس.
تظل هذه الممارسات مكملة فقط، وتساعد الجسم في مساره العلاجي أو الرفاهي، ولا يجب أن تتحول إلى سبب لإجهاد للجسد في حال ممارسة التأمل المكثف لساعات، ويستحسن أيضا أن يمارس تحت إشراف طبي بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب أو القلق المرضي.